الكلمة التفصيلية للأمين العام للجماعة في اجتماع المجلس المركزي الأخير

أكد الأستاذ عبد الرحمن بيراني الأمين العام لجماعة الدعوة والإصلاح على ضرورة الاجتهاد الجديد ومراعاة مقاصد الشريعة و"لسان القوم" للداعين إلى الإسلام، وذلك في اجتماع المجلس المرکزي في 25 فبراير في طهران.

 وفيما يلي نص كلمة الدکتور بيراني:

أود أن أبدأ کلمتي بإلهام من الآية: "وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ" "يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ" (إبراهيم: 4)

إن نعمة الهداية بعد نعمة الحياة من أهم وأثمن النعم الإلهية التي تتحقق لمن جعل نفسه بوعي على طريق الهداية واتباع رب العالمين وهو أهل لذلك الهداية الإلهية. يقول الله تبارک وتعالی:

"والله يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم" (يونس: 25)

يدعو الله تعالى الإنسان إلى الإيمان والعقيدة والنظرة إلى العالم واتباع الطريق المستقيم الذي يقود إلى النجاح والدخول إلى دار الأمان الأبدية والجنة دار السلام. كما يقول:
"كَذَٰلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِی أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهَا أُمَمٌ لِّتَتْلُوَ عَلَیهِمُ الَّذِی أَوْحَینَا إِلَیكَ وَهُمْ یكْفُرُونَ بِالرَّحْمَـٰنِ قُلْ هُوَ رَبِّی لَا إِلَـٰهَ إِلَّا هُوَ عَلَیهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَیهِ مَتَابِ" ‎﴿الرعد: ٣٠﴾‏

أما عن معنى ومفهوم "لسان القوم" في الآية (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ) فإن أول ما يتبادر إلى الذهن هو: أن كل نبي كان عالماً بلغة قومه، وكان يدعو الناس بتلك اللغة، وهذا من فضل الله ورحمته بعباده. ومع ذلك، فإن المفهوم الشامل والمعنى لـ "لسان القوم" هو الوعي والإلمام بثقافة الناس وأدب العصر والتطورات الفكرية والثقافية والاجتماعية، وظروف المجتمع المستهدف.

وفي هذا السياق فإنه من المناسب أن تتغير وتتجدد أساليب وبرامج وأدوات التبیین وتبلیغ دين الإسلام بما تتناسب مع التطورات والمتغيرات في المجتمع. ومن الجدير بالذكر أن موضوع التحول والتغيير هو سنة من السنن الإلهية التي تحكم الکون والمخلوقات، وهو أيضًا مظهر من مظاهر قدرة الله وحكمته في ما يتعلق بالحياة وحتى الأفكار والأديان والأعراف والتقاليد التي يتبناها الناس، وكذلك الأنظمة الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والسياسية في كافة أبعاد وجوانب الحياة البشرية.

وبناء على هذا نستطيع أن نقول أن معنى آية «وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَیلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِینَ مِن دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ یعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُوا مِن شَیءٍ فِی سَبِیلِ اللَّهِ یوَفَّ إِلَیكُمْ وَأَنتُمْ لَا تُظْلَمُونَ» ‎﴿الأنفال: ٦٠﴾‏ ودلالتها يتضمن أيضًا ضرورة إحداث التغييرات والتحولات في طريقة الدعوة وبرنامجها بما يتناسب مع ظروف وأحوال العصر والزمان. علاوة على ذلك فإن مفهوم ما يسمى بالدعوة إلى الله يشمل منظومة من المفاهيم والأفكار والأساليب والوسائل/البرامج والأدوات التي تهدف إلى تبیین خصائص ومزايا وجوانب مختلفة من الدين الإسلامي، لتنفيذ هذه المهمة النهائية، ولإظهار الوجه الرحماني للدین والتوفیق في إجابة أوامر الله تعالی وتنظيم الحياة على أساس المعايير والهدى الإلهي وتحقيق السعادة والنتائج الطيبة.

وفي هذا السياق، يحتوي القرآن الكريم في طیاته على منظومة علی المفاهيم مثل "البلاغ المبین" و"الموعظة الحسنة"، و"النصح"، و"الذكری"، و"الأسوة الحسنة"، و"الجدال بالتي هي أحسن"، "والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" و"الإنذار والتبشير"، و"التعاون على البر والتقوى".

ومن الجدير بالذكر أن مفهوم الدعوة بشكل عام له تاريخ طويل طوال حياة البشرية، ومع خلق النوع البشري ونشأته ولد موضوع ومفهوم الدعوة بدءا من دعوة الأنبياء والرسل بما يتناسب مع ظروف وأحوال المجتمع المستهدف ومتطلبات كل فترة ومرحلة محددة حتى نهاية الرسالة؛ وكما أن القرآن الكريم يصف بإعجاز تاريخ الأنبياء وكيفية دعوتهم في آية واحدة:

«شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّینِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحًا وَالَّذِی أَوْحَینَا إِلَیكَ وَمَا وَصَّینَا بِهِ إِبْرَاهِیمَ وَمُوسَىٰ وَعِیسَىٰ أَنْ أَقِیمُوا الدِّینَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِیهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِینَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَیهِ اللَّهُ یجْتَبِی إِلَیهِ مَن یشَاءُ وَیهْدِی إِلَیهِ مَن ینِیبُ» ‎﴿الشورى: ١٣﴾‏

في بعض الأحيان نری مجتمعا محدودا وأمة واحدة ونبيا بلا كتاب (لأن الكتابة وأدوات الكتابة لم تكن قد اخترعت بعد) والتواصل المباشر والحضور المادي لغرض التبیین والتبلیغ والاستجابة لاحتياجات ورغبات الناس و المجتمع المستهدف لتوسيع دائرة الأمة واتساعها وتحقيق رسالتها، ودور الكتاب المرافق للنبي خلال فترة طويلة نسبيا من حياة الأنبياء، ودعوتهم، وأخيرا مهمة الرسول صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء، ونهاية الرسالة والنبوة، وبداية رسالة عالمية أبدية، وغياب الرسول جسدياً، واستبدال نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، وانتقال أمانة الدعوة إلى العالم في نشر الدين وبيانه، من الأنبياء إلى العلماء والمفكرين والمثقفين وأتباع خاتم الأنبياء المخلصين إلى يوم القيامة.

والآن، فإن هذه الثقة والمسؤولية الثقيلة والخطيرة والمشرفة في نفس الوقت قد وضعت على عاتق المسلمين، وبخاصة الحركات والتيارات والإصلاحيين والناشطين الاجتماعيين، في ظل ظروف مختلفة.

مختلفة من حيث الظروف والأفراد والأنظمة التي تحكم العالم الإسلامي، ومختلفة في طريقة تواصل المواطنين مع الوکلاء وتفاعلهم مع المسؤولين ومع بعضهم البعض، ومختلفة أيضًا في أن الدعوة إلى العمل أحيانًا تكون مصحوبة بالمعرفة والوعي، والحكمة والواقعية والتعقل والصحة الروحیة. وإذا عرضت الدعوة في جو مملوء بالتعصب والجهل والتطرف والإفراط والتخلف وعدم فهم الواقع والفرص وسيطرة المشاعر، والعواطف والآمال والأهداف غير الواقعية وغير القابلة للتحقيق، وغذاؤها ومؤازرتها لا یتناسب مع عظمة هذه الأمانة وأهميتها.

ولذلك يمكن القول بأن مستوى النجاح في تحقيق هذه الرسالة المهمة والعظيمة والنجاح في نشر القيم الإسلامية والإنسانية النبيلة بشكل دقيق ومؤثر يعتمد على الإخلاص والأمانة والنزاهة والفهم الصحيح للدين ومقاصد الشريعة، والفهم الدقيق لرسالة الوحي في زمان ومكان محددين، وفي ظل الظروف والأحوال الحاکمة علی المجتمع المستهدف، وكذلك القدرة والإمكانية، للتوازن بين جلب المصالح ودرء المفاسد.

أنتم أيها السادة الكرام تعلمون جیداً أن حفظ الإنسان وصيانة كرامته هي محور دعوة الأنبیاء والرسل كما أن النمو والتقدم والتمتع بالحياة المعنویة المصحوبة بالسلام والراحة والنجاح هي محور المقاصد الشرعیة. لأن الهدف الأساسي للدین الإسلامي هو إعطاء المعنى لحياة الإنسان والحفاظ علی مكانته كخليفة لربه في الأرض وتوفير الأساس للعب دور أساسي في تطويره وإصلاحه وتوجيهه نحو حياة طيبة كفرد أو أسرة أو مجتمع، كما یفید هذا النداء الرباني:

"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ" ‎﴿الأنفال: ٢٤﴾‏ 
وأیضا: "َوَمَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا كَذَٰلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ"‎﴿الأنعام: ١٢٢﴾‏

ومن هنا فإن هذه الآية تعتبر المجیبین للدعوة الإلهية من المستمتعین بالحياة الحقيقية التي تليق بمكانة الإنسان، وتعتبر البعیدین من دعوة الدين من الموتی؛ لأن غاية دين الإسلام وهي عبارة عن النمو والرفعة والرخاء والنجاح، مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالقبول لنصائح وأوامر رب العالمين قبولاً صادقاً واعیاً، واتباع سنة النبي الکریم المطهرة نبي الرحمة (صلى الله عليه وسلم)، وتنظيم الحياة الدنيا على أساس العدل الإلهي. كما جاء في سورة غافر:
وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ ‎﴿٣٨﴾‏ يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَٰذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ ‎﴿٣٩﴾‏ مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَىٰ إِلَّا مِثْلَهَا ۖ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَٰئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ ‎﴿٤٠﴾‏

ومن الواضح أن رسالة الإسلام الرحيمة تتوافق مع منظومة من المفاهيم السامية مثل الإحسان، والإيثار، والصدق مع الله ومع المجتمع البشري. لأن البشرية كلها إلی یوم القیامة ستكون أمة النبي والذين يستجيبون هم من يسمون الأمة المسلمة، والبقية هم من يسمون أمة الدعوة. وسوف تكون العلاقات والحوار بين المصلحين والناشطين مع الآخرين مبنية على الحكمة، أو الموعظة الحسنة، أو الجدال بالتي هي أحسن. ومن الواضح أن نطاق فروض الكفاية وتحقيق واجب ورسالة بالبلاغ المبین التبیین الصحيح للقيم الإسلامية والإنسانية، فضلاً عن الجهد المبذول لتمكين وتحسين المستوى العلمي والتقني للمسلمين والفوز بالمکانة الجديرة والمتوازنة ستکون واسعًا ومتنوعًا للغاية. ولذلك، وكما يقول الأستاذ أحمد راشد رحمه الله، إننا نحتاج إلى التربية التنموية المبتكرة بالتوازي مع تقوية الإيمان وضرورة انتقال الدعاة من التقليد والتبعیة إلى الاجتهاد والابتكار والإبداع والتأثير، وفي هذا السياق يقول: إن كتابي "أصول الإفتاء والاجتهاد المقارن في فقه الدعوة" يدعو إلى ثلاثة مفاهيم هامة:
اولاً: وجوب المنحى الاجتهادی الاستنباطي في الفكر وعملیات التخطیط والمواقف لا التقلید والجمود عند مذاهب الاولین لاختلاف الظروف وتعقد الحیاه وطروء اشكالات جدیدة من العلاقات. 
ثانیاً: الحرص على تحقیق اوفر المصالح للمسلمین عند هذا الاجتهاد ودفع ومنع اكبر المفاسد.
وهو نمط الاجتهاد الذي اسسه مالك ثم وسعه العز ابن عبد السلام فتلقفه ابن تیمیه وتلمیذه ابن القیم، ثم صار هذا الاجتهاد المصلحي هو الحل الذي یسرع الیه الفقهاء كلما دهمتهم معضلة.
ثالثاً: الحرص على رهط من الدعاة العلماء، یستيطعون الاجتهاد وافتاء الحركة الإسلامیة وتوصیف الفقهیة العلمیة التغیریة في سلمها وحربها بحیث یتعمقون في فهم القرآن والحدیث واقوال المذاهب لیمیزوا المصالح والمقاصد جیداً.

1- ضرورة اعتماد المنهج الاجتهادي والاستنباطي في التفكير والتخطيط والمواقف، وتجنب التقليد والجمود في مذاهب الماضین، بسبب تغير الظروف، وتعقيد الحياة، وظهور مشاكل جديدة في العلاقات.

2. الاهتمام بتحقيق أعظم المصالح للمسلمين في هذا الاجتهاد، ودرء أكبر المفاسد. وهذا هو نوع من الاجتهاد الذي وضعه الإمام مالك، ثم توسع فيه العز بن عبد السلام، ثم أكمله ابن تيمية وتلميذه ابن القيم. لقد أصبح هذا الاجتهاد النافع تدريجياً حلاً يلجأ إليه الفقهاء بسرعة عندما يواجهون المشاكل.

3. الاهتمام بتدريب مجموعة من العلماء الدعاة القادرين على الاجتهاد والإفتاء للحركة الإسلامية، والذين يقدمون وصفاً فقهياً وعلمياً مناسباً للتغيرات في أحوال السلم والحرب، حتى يتمكنوا من تعميق فهمهم للتطورات في هذه المرحلة وفهم القرآن والحديث وآراء المذاهب الفكرية والقدرة على تحديد المواد والأغراض بشكل جيد.

والسلام علیكم ورحمة الله وبركاته